Wednesday, June 16, 2010

اقتصاديات البيئة

سلسلة مقالات في الاقتصاد الإسلامي
بقلم أ.د/ محمد عبد الحليم عمر

اقتصاديات البيئة

لقد فرض موضوع البيئة واقتصادياتها نفسه على العالم بعدما ظهر التدهور البيئى وآثاره السلبية على حياة الإنسان بصورة كبيرة وهذا ما جعل المجتمع الدولى يولى اهتماماً كبيراً بالبيئة منذ حوالى ثلاثين سنة بدأ بانعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة البشرية باستكهولم عام 1972 والذى توج بسلسلة من الاتفاقيات الدولية ثم جاء مؤتمر البيئة والتنمية فى البرازيل عام 1992 والذى يعرف «بقمة الأرض» ومن هذا المنظور تم إعداد جدول أعمال القرن الحادى والعشرين (أجندة 21) لتعكس اهتمام المجتمع الدولى بقضايا البيئة والموارد الطبيعية وإصراره على توحيد الجهود الرامية إلى حماية البيئة وتوفير نوعية حياة أفضل للإنسان والكائنات الحية، وعلى المستوى المحلى قامت كل دولة بإصدار التشريعات لحماية البيئة بدءا من قانون الهواء النظيف فى أمريكا عام 1963 ، وفى انجلترا عام 1968 ثم باقى دول العالم بل وإنشاء وزارات للبيئة، وفى هذا المقال سوف نحاول فى إيجاز التعرف على هذه القضية وموقف الإسلام منها وذلك فى الفقرات التالية

أولا: مفهوم البيئة والتوازن البيئى: يمكن تعريف البيئة بأنها الحيز أو المحيط الذى يعيش فيه الكائن الحى وعلى الأخص الإنسان بما يحتويه هذا الحيز من قوى وطاقة مثل قوة الرياح وطاقة الشمس، وموارد مثل الأرض وما فيها من ماء وغازات وهواء، وأنماط الحياة النباتية والحيوانية، أى أن البيئة هى المخزون الذى خلقه اللَّه سبحانه للإنسان الزاخر بالعناصر التى يحولها الإنسان بجهده إلى موارد نافعة لحياته وثروات للإفادة منها فى عيشه وبقائه ولقد خلق اللَّه سبحانه وتعالى هذه العناصر بقدر وتوازن يكفل حفظها واستمرارها يأخذ الإنسان منها وتستوعب مخلفات أنشطته من خلال مجموعة من التوافقات والتنظيمات الإلهية الرائعة والتى يطلق عليها العلماء التوازن البيئى الطبيعى ثم بدأ الإخلال بهذا التوازن بفعل الإنسان فى صورة ما يسمى بتلوث البيئة

ثانيا: تلوث البيئة: ظهرت الثورة الصناعية فى القرن السابع عشر واستتبعها أنماط وسلوكيات جديدة فى الحياة حيث ازداد الإنتاج والاستهلاك وزاد تبعا لذلك معدل استنزاف الموارد الطبيعية وكثرت المخلفات المتولدة عن الصناعات من غازات ومواد صلبة وسائلة يتم التخلص منها فى الهواء والأنهار والأرض وبتقدم المواصلات عبرت هذه المخلفات القارات والدول خاصة الدول النامية والفقيرة حيث تنقل إليها الدول الصناعية المتقدمة مخلفات الصناعة، كما تطور استخدام الكيماويات والبتروكيماويات مما تسبب عنه تحولات جوهرية فى مكونات الحياة والهواء والأرض وتم استخدام المخصبات الزراعية غير الطبيعية والمبيدات الحشرية وما نتج عنه من تأثير على البيئة النباتية والحيوانية، بل وصل الأمر إلى طبقات السماء العليا من خلال التأثير على الأوزون، وكل ذلك يصب فى عنوان تلوث البيئة التى تعرف اقتصاديا «بأنه الزيادة التراكمية للعناصر الضارة بالبيئة» وأخذ هذا التلوث صورا عدة مثل تلوث الهواء بالأدخنة، والتلوث الحرارى المنبعث من تشغيل الموتورات والتلوث الناتج عن الضوضاء وعن الفضلات وصرف المجارى ومخلفات المصانع فى الطرق والأنهار والتلوث بالمبيدات الزراعية وغير ذلك مما يسبب أضرار عديدة بصحة الإنسان وسائر الكائنات الحية. ويغير من خصائص الموارد بما يحولها من مواد نافعة إلى مواد ضارة.
ثالثا: الاقتصاد والبيئة: إن العلاقة وثيقة بين الاقتصاد والبيئة، فإذا كان الاقتصاد يدور حول الإنتاج والاستهلاك، فإنه فى الإنتاج المعاصر يتم استخدام العناصر البيئية ممثلة فى الموارد بصورة متزايدة مما يؤدى إلى استنزاف الموارد غير المتجددة مثل الغابات والنفط والمعادن المختلفة إلى جانب إجهاد الأرض بالعديد من المزروعات خلال السنة مما أثر على خصوبتها وظهرت مشكلة التصحر، كما أن التصرف فى مخلفات الإنتاج من غازات وأدخنة تلوث الهواء، ومن مخلفات صلبة وسائلة تلوث المياه فى الأنهار والبحار وتلوث الطرق، وأيضا فإن الاستهلاك المتزايد يدفع إلى المزيد من الإنتاج كما أن مخلفات الاستهلاك تلوث البيئة سواء فى صورة المجارى أو بقايا الأكل والأثاث والمخلفات المختلفة (القمامة) ومن جانب آخر فإنه لمحاولة التخلص من آثار تلوث البيئة يتم إنفاق مبالغ طائلة واستخدام موارد بشرية وآلات ومعدات لعلاج المواطنين الذين يصابون بالأمراض الناتجة عن تلوث الماء والهواء وللتخلص من المخلفات عن طريق الإدارة المتكاملة بالجمع والنقل والفرز والتدوير والدفن الآمن، ومن يتحمل هذه التكاليف ليس من تسبب فى التلوث وإنما الذين يصابون من ناتج التلوث ومن المال العام الأمر الذى يمكن معه القول أنه توجد علاقة وثيقة بين الاقتصاد والبيئة مما أوجد فرعا من فروع الاقتصاد يسمى "اقتصاديات البيئة" ومجاله تحديد تكاليف التلوث ممثلة فى المبالغ التى تنفق للتخلص من التلوث وآثاره سواء تلك التى يتم إنفاقها على تصميم وإنتاج وتركيب مانعات التلوث أو التى تنفق للتخلص من الملوثات أو تلك التى يتم إنفاقها لعلاج الأمراض التى تصيب الناس من التلوث أو التى تصيب الأرض وسائر الموارد، وتحديد من يتحمل بها؟ وهل تعتبر تكاليف إنتاج داخلية يتحمل بها صاحب المصنع أم تكاليف خارجية يتحمل بها من يصيبه التلوث أو الدولة؟ ومع ذلك فإنه تقف صعوبات عديدة أمام احتساب هذه التكاليف لعدم وجود أسواق بديلة لها، ويمتد فرع اقتصاديات البيئة ليدرس الأساليب التى يتم بها مواجهة تلوث البيئة حيث توجد عدة أساليب منها أسلوب التحكم والسيطرة الحكومى والذى يقوم على سن قوانين ووضع اشتراطات لإقامة وحدات إنتاجية غير ملوثة وعلى رجال الأعمال الالتزام بها وعدم السماح له بإنشاء الوحدة الإنتاجية ما لم تكن متوافقة مع الاشتراطات البيئية، وبالنسبة للمصانع القائمة عليها توفيق أوضاعها وإلا تعرضت للإلغاء والعقوبات الإدارية والقضائية، ومن بين هذه الأساليب أسلوب الحوافز بمعنى منح من يقلل التلوث أو يمنعه إعفاءات ضريبية، ثم هناك نظام الجودة البيئية الذى يساعد من يلتزم به على المنافسة عند الحصول على المواصفات الخاصة بذلك مثل الأيزو 14000 وأخيرا يوجد ضمن اتفاقيات الجات اتفاقية تحظر على منتجات الوحدات الملوثة للبيئة من النفاذ إلى الأسواق أو التصدير
ومع كل هذه المجهودات العالمية والمحلية فإن مشكلة تلوث البيئة مازالت مستمرة وتتزايد ومازال الملوثون لا يلتزمون بالقوانين والمواصفات البيئية ويتحايلون عليها لأن ممارسى الأنشطة الملوثة لا يلتزمون بسياسة التضحية الاختيارية لتحمل تكاليف خارجية لعلاج التلوث تزيد من إجمالى تكاليف الإنتاج وتقلل من أرباحهم، الأمر الذى يتطلب وجود دافع ذاتى لديهم وهذا ما يوفره الإسلام الذى نتعرف على موقفه من هذه القضية فى الفقرة التالية

رابعا: موقف الإسلام من قضية البيئة وحمايتها من التلوث: شأن الإسلام فى اهتمامه بكل الأمور نالت حماية البيئة عناية فائقة على عدة محاور منها

أ- الإسلام يحرم تلوث البيئة: ويعتبره إفساداً فى الأرض بإهلاك الموارد التى خلقها اللَّه لنفع الإنسان حيث يقول سبحانه فى صفة غير المستقيمين
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ - البقرة: 205
ومن أوجه الإعجاز القرآنى الإشارة إلى تفاقم حالة تلوث البيئة التى تعيشها البشرية الآن وآثارها وعلاجها فى قوله تعالى
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ - الروم: 41

ولذا فإن الأمر يقتضى الرجوع أولا إلى اللَّه وإلى الإسلام وأول خطوة فى ذلك التوقف عن التلوث لأن اللَّه سبحانه وتعالى فى أكثر من 11 آية نهى عن الإفساد فى الأرض وأخبر سبحانه أنه لا يحب المفسدين وهذا ما يوجد دافعاً إيمانياً لدى المسلم للامتناع عن تلوث البيئة
ب- تذخر السنة النبوية الشريفة بأحاديث عدة تحث على حماية البيئة وتحذر من التلوث أياً كانت درجته وعلى رأس ذلك النص على أن حماية البيئة من شعب الإيمان فيقول الرسول
الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا اللَّه وأدناها إماطة الأذى عن الطريق
وتعدد أحاديث أخرى بعض صور التلوث والاعتداء على المكونات البيئية مثل قول الرسول بينما رجل يمشى بالطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخَّره فشكر اللَّه له فغفر له
وقصة المرأة التى دخلت النار فى هرة عذبتها، وقصة الرجل الذى سقا كلباً فغفر اللَّه له، وقول الرسول
إماطتك الحجر والشوك والعظم عن طريق الناس صدقة
والنهى عن تلوث المياه بالمخلفات ... وغير ذلك من الأحاديث كثيرة

جـ- نهى الإسلام عن الاسراف والتبذير باعتبارهما يؤديان إلى استنزاف الموارد أحد صور الإضرار بالبيئة وجاء هذا النهى مقترنا بعدم حب اللَّه للمسرفين فى قوله تعالى
إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ - الأنعام: 141)

د- تعد حماية البيئة من مقصود الشريعة والذى يحدد فى «جلب المصالح ودرء المفاسد» ومن المعروف فقهاً أن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» وبالتالى من أراد إنشاء مصنع لينفع نفسه والآخرين وكان هذا المصنع يلوث البيئة فإنه يمنع منه دينا وقضاء

هـ- لم يقف الأمر فى الإسلام عند حد وضع الإطار النظرى لحماية البيئة وإنما امتد الأمر إلى التطبيق العملى من خلال جهاز الحسبة الذى كان يمثل أسلوب التحكم والسيطرة والرقابة على التلوث من خلال اتباع اجراءات وقائية وعلاجية لمنع التلوث ومن أمثلة ذلك واجب المحتسب تجاه مكافحة تلوث الهواء بالدخان بالأساليب المتاحة فيها ما جاء "وينبغى أن يأمرهم المحتسب برفع سقائف أفرانهم ويجعل فى سقوفها منافذ عالية واسعة للدخان" والمجال لا يتسع لذكر أمثلة عديدة لما كان يقوم به المحتسب فى مراقبة حماية البيئة من التلوث

وفى النهاية يمكن القول أن الإسلام اهتم بحماية البيئة من التلوث وواجب المسلمين أن يلتزموا بأحكام دينهم وأن يتقوا اللَّه فى العناصر البيئية فلا يعتدوا عليها بالتلوث أو بالاسراف والتبذير فى استخدامها ويمكن أن يمثل المدخل الإسلامى لمكافحة التلوث أحد الأساليب التى تعتمد عليها الحكومات بالتوعية فإن التلوث يمثل إفسادا فى الأرض واللَّه لا يحب المفسدين، وبأن حماية البيئة من أدنى تلوث يرضى اللَّه ويجازى المسلم خيرا فى الدنيا والآخرة، كما أن للمسلمين أن يعتزوا بدينهم الذى اهتم بحماية البيئة من التلوث منذ نشأته وقبل أن يصبح حجم الخطر فيها كبيرا ولو أن اللاحق من أمور المسلمين اتصل بالسابق فى استمرار لأمكن فى ظل النظام الإسلامى الحد من المشكلة قبل أن تستفحل وتأخذ هذا الشكل الخطير ومع ذلك فإن الفرصة متاحة أمام مسلمى اليوم للاسهام فى المجهودات الدولية لمكافحة التلوث من منظور إسلامى حتى يكونوا مشاركين بإيجابية فى النظام الدولى المعاصر وليسوا تابعين ومتأثرين

نسأل اللَّه سبحانه التوفيق والسداد

No comments:

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...